قصة تحت ضوء القمر
بقلم الكاتب والصحفي الاستاذ نور الدين الجعباق
في لحظة من اللحظات، كنت أسير في شوارع المدينة، متتبعاً خطى قدميّ، وفي داخلي توجد زوبعة من الأسئلة. وجدت نفسي غارقًا في تأمل عميق. قلت في نفسي: “أين أجد عقلي؟ أين يوجد جوهر هذا الكائن الذي أطلق عليه اسم ‘العقل’؟”
كلما زادت الأسئلة، زادت الفوضى في أنشطتي. لم أعد أفهم إلى أين أذهب. هل أذهب إلى القلب وأبحث عنه هناك، حيث تنبض العواطف والأحاسيس، أم إلى الدماغ، حيث تتراقص الأفكار والمفاهيم كعصفور محلق في السماء الواسعة؟ .
استوقفتني فكرة أخرى. ربما يتحرك العقل مثل دمى خفية تسحبها خيوط غير مرئية. كيف يمكن أن أبحث عن هذا الكائن حي بداخلي؟ هل يمكن للعقل أن يكون تجسيدًا للذكريات والمعرفة، أم هو مجرد حديقة مليئة بالأفكار الوردية والظلال المتطفلة؟
تذكرت أحد أصدقائي، الذي قال لي مرة: “العقل ليس شيئًا يمكننا امتلاكه أو احتجازه، بل هو كالنهر، يتدفق باستمرار، يحمل معه هياكل إنسانية متلاشية وأفكار جديدة.” لم أستطع تفادي السؤال: لماذا أبحث عن المفاتيح لتلك الأبواب المغلقة في أعماقي؟ لماذا لا أتركها تفتح من تلقاء نفسها؟.
في تلك اللحظة، أدركت أنني قد أكون في حاجة إلى مساعدة، إلى ذلك الجسم الذي يمكن أن يجمع شتات أفكاري. ولكن هل يمكن لأحد أن يدرك عقلي كما أدركه؟ هل يتشاركون في تجارب الوجود؟
ومع مرور الوقت، بدأت أرى. كان كل من حولي يبحثون عن عقولهم أيضًا، يرتدون أقنعة تتناسب مع انفعالاتهم. ابتساماتهم كانت تخفي أحيانًا كآبة، وضحكاتهم كانت تصرخ برغباتهم المخفية. وقد كانت مراجعة النفس رحلة مشتركة لنا جميعا.
تنفست الصعداء وقلت لنفسي: “ربما يكون من الأفضل ألا أجد عقلي، بل أن أسمح له أن يجدني هو .” قررت أن أقبل بهذه الفوضى وأن أعيش تلك المغامرة، وفي كل لحظة أفتح له الباب لينقل إلي كل جديد. ربما يخلق فوضى في كياني ، ولكنه في نفس الوقت يحدث جمال الحياة.
مع مرور الأيام، أصبحت رحلتي أكثر تعقيدًا. كلما أبحرت في تجارب جديدة، زادت الأسئلة حدة. كيف يمكنني أن أعبر عن مشاعري في حين أن عقلي يضيع بين ظلال الماضي وأضواء المستقبل! أحسست كأنني نجم ضائع في فضاء شاسع، يتأرجح بين أفكار البراءة وأفكار الخوف.
وذات ليلة، بينما كنت جالسًا تحت ضوء القمر، تساءلت: “هل من الممكن أن يكون العقل هو ذلك الجزء الذي يرفض الاستقرار في حياتي ؟” وأدركت حينها أنني أحث عن شيء يشبه العودة إلى زمن الطفولة، حيث كانت الأحلام تتراقص في ذهني بلا قيود.
فلماذا لم أستطيع أن أكون طليقًا كما كنت في صغري؟ هل كبرت لدرجة أنني انفصلت عن براءتي؟
في تلك اللحظة، جاءني صوت داخلي، يشبه همسات الرياح. “الأفكار ليست سجينة، بل هي ملكات. أستقبل فيها كل فكرة كضوء يضيء لي الطريق.” قلت لنفسي: “وماذا لو كانت تلك المعلومات والذكريات هي مجرد أدوات؟ هل يمكن أن أستعملها لإعادة صوغ نفسي، لأنظر إلى عقلي بطريقة جديدة؟”
بدأت أدرك شيئًا آخر. العقل ليس كائنًا ثابتًا يمكن لمسه أو الاحتفاظ به. بل هو كائن يتطور، يتشكل مع كل تجربة، مع كل لحظة نعبرها. كطفل متجدد. قررت أن أبحث عنه في الأشياء البسيطة التي كنت أفتقدها. لقد كان هناك في تلك الضحكات، في العناق، في المواقف اليومية الصغيرة التي كنت أتجاوزها.
فها أنا أدركت. أن عقلي كان موجودًا في لحظات الارتباط بالعائلة بالأصدقاء في الطبيعة، في الفهم العميق للآخرين…… كان موجودًا في الخيال الذي ينسج بين الأصدقاء والأفراد الذين يشاركون أفكارهم وأحلامهم. وجدت نفسي أسائل الزهور والأشجار، حتى الغيوم، عن أسرار العالم والأفكار.
وفي رحلة التعبد هذه، وجدت عقلي لا في سكون وهدوء، بل في الفوضى الذي تشكله في هذه الحياة. في كل تحدياتي، التي تجاوزت عقباتها، في الفشل والنجاح على حد سواء. كل عثرة كنت أتعثر بها كانت تضاف إلى سجلي الشخصي من المعرفة.
وفي هذه الرحلة، أدركت أنه لا توجد إجابة واحدة لقضية “أين أجد عقلي؟” لأن العقل هو ما نصنعه من تجاربنا. فهمت أن رحلتي لن تنتهي هنا، بل هي رحلة دائمة، ودعوة مستمرة للاستكشاف. وفي تلك اللحظة، كنت على يقين أن في كل إنسان، يدور نفس السؤال، يبحث عن دليله في هذا العالم المليء بالألغاز: “فأين أجد عقلي؟”